فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو حيان: إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه، وقال آخر: إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفًا بالأفراد والجملية أن يكون الحال كذلك.
وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر، نعم فرارًا من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراص والجملة اعتراضية، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجًا، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس ومجاهد، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما، ولما كان {قَيِّمًا} يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل} [الكهف: 1] إلخ للاحتراس، وقدم للاهتمام كما في قوله:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ** ولا زال منهلا بجرعائك القطر

ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر، وان قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى: {لَّمْ يَجْعَلِ لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] يدل على كونه مكملًا في ذاته، وقوله سبحانه: {قَيِّمًا} يدل على كونه مكملًا لغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وان ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى.
ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروى عن ابن عباس ومجاهد، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، وقال صاحب حل العقد: يمكن أن يكون قيما بدلًا من قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] قال أبو حيان: ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدًا أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد، وفي جواز ذلك خلاف، هذا وزعم بعضهم أن ضمير {لَهُ} [الكهف: 1] عائد على {عَبْدِهِ} [الكهف: 1] وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة، وقرأ أبان بن ثعلب {قَيِّمًا} بكسر القاف وفتح الياء المخففة؛ وفي بعض مصاحف الصحابة {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا عِوَجَا قَيِّمًا} وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة {لّيُنذِرَ} متعلق ب {انزل} [الكهف: 1] واللام للتعليل، واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالإغراض كالسلف والماتريدية، ومن يأبى ذلك بجعلها لام العاقبة، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم، والفاعل ضمير الجلالة، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير {الكتاب} [الكهف: 1] أو ضميره صلى الله عليه وسلم، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى: {أنذرناكم عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني، وهو قوله تعالى: {بَأْسًا شَدِيدًا} إيذانًا بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد، والمراد الذين كفروا بالكتاب، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا {مِن لَّدُنْهُ} أي صادرا من عنده تعالى نازلًا من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يوضع موضع عند.
وقال بعضهم: إن {لَّدُنْ} أبلغ من عند وأخص وفيه لغات، وقرأ أبو بكر عن عاصم باشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتفاء الساكنين وكسر الهاء للاتباع، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الاشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون.
وغيره بأن هذا الاشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور، ولذا قيل: إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء.
ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها، ولا يخفى ما فيه، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال.
وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل {وَيُبَشّرُ} بالنصب عطف على {ينذر} وقرئ شاذًا بالرفع.
وقرأ حمزة والكسائي: {أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ} بالتخفيف {المؤمنين} أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب {الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور {أَجْرًا حَسَنًا} هو كما قال السدى وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى: {مَّاكِثِينَ فِيهِ} أي مقيمين في الأجر {أَبَدًا} من غير انتهاء لزمان مكثهم.
ونصب {مَّاكِثِينَ} على الحال من الضمير المجرور في {لَهُمْ} والظرفان متعلقان به. اهـ.

.قال القاسمي:

{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب}.
قدّمنا أن كثيرًا ما تفتح السور وتختم بالحمد، إشارة إلى أنه المحمود على كل حال: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70]، وتعليمًا للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه. وذلك بالثناء على الله تبارك وتعالى بنعمه العظمى ومننه الكبرى. وفي إيثار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العليّة، تنبيه على أنه أعظم نعمائه. فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد. ولا شيء في معناه يماثله. وفي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية، تنبيه على عظمة المنزَل والمنزَل عليه. كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية، كما تقدم في سورة الإسراء. وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدًا للمرسِل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام. وتعريف الكتاب للعهد. أي: الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال، المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به. وهو عبارة عن جميع القرآن. أو عن جميع المنزل حينئذ. وتأخيره عن الجار والمجرور، مع أن حقه التقديم عليه، ليتصل به قوله سبحانه: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] أي: شيئا من العوج، باختلال في نظمه وتناف في معانيه. أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق. بل جعله مزيلا للعوج؛ إذ جعله:
{قيّما} أي: قيّما بمصالح العباد وما لابد لهم منه من الشرائع. فهو وصف له بأنه مكمل لهم، بعد وصفه بأنه كامل في نفسه. أو قيما على الكتب السالفة، مهيمنا عليها. أو متناهيًا في الاستقامة والاعتدال. فيكون تأكيدًا لما دل عليه نفي العوج. مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له، حسبما تنبئ عنه الصيغة. وانتصابه بمضمر تقديره جعله كما ذكرنا. على أنه جملة مستأنفة. وفيه وجوه أخر.
تنبيه:
ذهب القاشاني أن الضمير في {له} وما بعده لقوله: {عَبْدِهِ} قال: أي: لم يجعل لعبده زيغًا وميلًا. وجعله قيّما، يعني مستقيما، كما أُمر بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، أو قيّما بأمر العباد وهدايتهم، إذ التكميل يترتب على الكمال. لأنه: عليه الصلاة والسلام، لما فُرغ من تقويم نفسه وتزكيتها، أقيمت نفوس أمته مقام نفسه. فأُمر بتقويمها وتزكيتها. ولهذا المعنى سمي إبراهيم، صلوات الله عليه، أمة. وهذه القيمية أي: القيام بهداية الناس، داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة، انتهى.
والأظهر الوجه الأول.
وقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} أي: لينذر من خالفه ولم يؤمن به، عذابًا شديدًا عاجلًا أو آجلًا. والبأس: القهر والعذاب، وخصصه بقوله: {مِنْ لَدُنْهُ} إشارة إلى زيادة هوله. ولذلك عظمه بالتنكير. متعلق بأنزل أو بعامل قيما: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: به. وقال القاشاني: أي: الموحدين، لكونهم في مقابلة المشركين، الذين قالوا اتخذ الله ولدًا. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} أي: من الخيرات والفضائل: {أَنَّ لَهُمْ} أي: بأن لهم، بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة: {أجرًا حسنًا} وهو الجنة: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)}.
موقع الافتتاح بهذا التحميد كموقع الخطبة يفتتح بها الكلام في الغرض المهم.
ولما كان إنزال القرآن على النبي أجزل نَعماء الله تعالى على عباده المؤمنين لأنه سبب نجاتهم في حياتهم الأبدية، وسبب فوزهم في الحياة العاجلة بطيب الحياة وانتظام الأحوال والسيادة على الناس، ونعمة على النبي بأن جعله واسطة ذلك ومبلَغه ومبينه؛ لأجل ذلك استحق الله تعالى أكمل الحمد إخبارًا وإنشاءً.
وقد تقدم إفادة جملة الحمد لله {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا} استحقاقه أكمل الحمد في صدر سورة الفاتحة.
وهي هنا جملة خبرية، أخبر الله نبيئَه والمسلمين بأن مستحق الحمد هو الله تعالى لا غيره، فأجرى على اسم الجلالة الوصف بالموصول تنويهًا بمضمون الصلة ولما يفيده الموصول من تعليل الخبر.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لله تقريب لمنزلته وتنويه به بما في إنزال الكتاب عليه من رفعة قدره كما في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1].
والكتاب: القرآن.
فكل مقدار منزل من القرآن فهو {الكتاب}.
فالمراد بالكتاب هنا ما وقع إنزاله من يوم البعثة في غار حراء إلى يوم نزول هذه السورة، ويلحق به ما ينزل بعد هذه الآية ويزاد به مقداره.
وجملة {ولم يجعل له عوجًا} معترضة بين {الكتاب} وبين الحال منه وهو {قيمًا}.
والواو اعتراضية.
ويجوز كون الجملة حالًا والواو حالية.
والعِوج بكسر العين وفتحها وبفتح الواو حقيقته: انحراف جسم ما عن الشكل المستقيم، فهو ضد الاستقامة.
ويطلق مجازًا على الانحراف عن الصواب والمعاني المقبولة المستحسنة.
والذي عليه المحققون من أئمة اللغة أن مكسور العين ومفتوحها سواء في الإطلاقين الحقيقي والمجازي.
وقيل: المكسورُ العيننِ يختص بالإطلاق المجازي وعليه درج في الكشاف.
ويبطله قوله تعالى لما ذكر نسف الجبال {فيذرها قاعًا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتًا} [طه: 106 107] حيث اتفق القراء على قراءته بكسر العين.
وعن ابن السكيت: أن المكسور أعم يجيء في الحقيقي والمجازي وأن المفتوح خاص بالمجازي.
والمراد بالعِوج هنا عوج مدلولات كلامه بمخالفتها للصواب وتناقضها وبعدها عن الحكمة وإصابة المراد.
والمقصود من هذه الجملة المعترضة أو الحالية إبطال ما يرميه به المشركون من قولهم: افتراه، وأساطير الأولين، وقول كاهن، لأن تلك الأمور لا تخلو من عوج، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [النساء: 82]. وضمير {له} عائد إلى {الكتاب}.
وإنما عدي الجعل باللام دون في لأن العوج المعنوي يناسبه حرف الاختصاص دون حرف الظرفية لأن الظرفية من علائق الأجسام، وأما معنى الاختصاص فهو أعم.
فالمعنى: أنه متصف بكمال أوصاف الكتب من صحة المعاني والسلامة من الخطأ والاختلاف.
وهذا وصف كمال للكتاب في ذاته وهو مقتض أنه أهل للانتفاع به، فهذا كوصفه ب {أنه لا ريب فيه} في سورة البقرة (2).
و{قيمًا} حال من {الكتاب} أو من ضميره المجرور باللام، لأنه إذا جعل حالًا من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب.
والقيم: صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله، كما تقدم عند قوله تعالى: {الحي القيوم} في سورة البقرة (255).
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها، فالمراد أن كماله متعدّ بالنفع، فوزانه وزان وصفه بأنه {هدى للمتقين} في سورة البقرة: (2).
والجمع بين قوله: {ولم يجعل له عوجًا} وقوله: {قيمًا} كالجمع بين {لا ريب فيه} [البقرة: 2] وبين {هدى للمتقين} [البقرة: 2] وليس هو تأكيدًا لنفي العوج.
{لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ}.
{لينذر} متعلق ب {أنزل}.
والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة، أي لينذر الله بأسًا شديدًا من لدنه، والمفعول الأول لـ: {ينذر} محذوف لقصد التعميم، أو تنزيلًا للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذَر به وهو البَأس الشديد تهويلًا له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله.